Skip links
عد اللعب من أكثر الأنشطة الإنسانية عمقًا وأصالة، فهو ليس مجرد وسيلة للترفيه بل هو اللغة الأولى التي يتعلم بها الإنسان فهم ذاته والعالم من حوله.

اللعب هو جوهر التعلم في الطفولة المبكرة

يُعد اللعب من أكثر الأنشطة الإنسانية عمقًا وأصالة، فهو ليس مجرد وسيلة للترفيه بل هو اللغة الأولى التي يتعلم بها الإنسان فهم ذاته والعالم من حوله. وكما أن الحب والعمل يتغير معناهما عبر مراحل الحياة، فإن اللعب أيضًا يمر بتحولات جوهرية، تتجلى بوضوح في مرحلة الطفولة المبكرة حيث يصبح أساسًا للتعلم والنمو العقلي والعاطفي والاجتماعي. اللعب عند الأطفال ليس نقيضًا للعمل كما يظنه الكبار بل هو العمل الحقيقي للطفل والوسيلة التي يكتشف بها القوانين الأولى للحياة. من خلال اللعب، يتعلم الطفل أن صوته يمكن أن يُحدث تأثيرًا وأن العالم يتفاعل معه. 

 

يتعلم الرضيع من ثرثرته المرحة أصوات لغته ويتعلم الطفل الصغير من الطرق بملعقة معدنية أو خشبية أن لكل مادة طبيعة مختلفة. كما تمنحه ألعاب التمثيل الجماعي القدرة على فهم شخصيات الآخرين والتعبير عن ذاته، وبناء الاحترام المتبادل.وفي الألعاب الجماعية مثل الداما أو المونوبولي، يتعلم الأطفال التخطيط وقراءة الإشارات الاجتماعية، وضبط الانفعالات. أما عندما يبتكرون ألعابهم بأنفسهم، فإنهم يُبدعون القواعد، ويتعلمون الانضباط والعدل في اتباعها. وهنا ينشأ ما وصفه جان بياجيه بـ«الاحترام المتبادل»، الذي يشكل أساس العلاقات الإنسانية السليمة.

 

تحوّل تعليم الطفولة المبكرة خلال العقود الأخيرة إلى جزء أساسي فى مراحل التعليم  بعد أن كان مجرد رعاية للطفل. ومع ذلك، فإن رواد هذا المجال  من كومينيوس ولوك وروسو إلى فروبل وماريا منتسوري أكدوا أن التربية في هذه المرحلة يجب أن تبدأ من الطفل نفسه لا من المادة الدراسية. فالمنهج الفعّال هو الذي يتكيّف مع احتياجات الطفل وقدراته المتنامية ويتيح له التعلم من خلال التجربة الحرة.

 

وقد جسّد فريدريش فروبل هذا المبدأ في أول روضة أطفال في التاريخ، ثم جاءت ماريا منتسوري لتُعيد صياغة التعليم كعملية نمو ذاتي للطفل في بيئة معدّة بعناية. واليوم ورغم توسع برامج التعليم المبكر عالميًا، فإن بعض الأنظمة الحديثة حولت رياض الأطفال إلى «الصف الأول الجديد»، متجاهلة المبدأ الجوهري القائل بأن اللعب هو الطريق الأصيل للتعلم.

 

  طاقة النمو والإبداع للطفل

 

اللعب فعل من أفعال الخيال والخيال بدوره شكل من أشكال المعرفة. فعندما يركض الطفل في الهواء الطلق، يشعر بأنه جزء من الطبيعة نفسها، يتحرك مع الريح ويعيش لحظات لا تُقاس بالوقت بل بالفرح. وعندما يلعب بمفرده في صندوق الرمل أو يحاور دميته، فإن خياله ينطلق بحرية ليخلق العوالم ويعيد ترتيب الواقع.

إن اللعب والخيال وجهان لعملة واحدة في عبقرية الطفولة. فهما يساعدان الطفل على اكتشاف الاحتمالات، وطرح الأسئلة، وتجاوز حدود المألوف. وقد لخّصت طفلة صغيرة هذه الحالة ببراءة حين قالت: “عندما ألعب، أشعر وكأنك لا يمكنك السقوط. وأشعر وكأن النجوم تحملني.” تشير الدراسات إلى أن اللعب في الهواء الطلق يعزز النمو البدني والعقلي والعاطفي للأطفال. فالعالم الطبيعي غني بما لا يُحصى من «المتغيرات» — النباتات، الماء، الرمل، التراب، الحشرات وكلها تمنح الأطفال فرصًا لا نهائية للاستكشاف والتجريب.

الأطفال في الطبيعة يركضون، يتسلقون، يكتشفون التوازن، ويبتكرون ألعابهم الخاصة من مواد بسيطة كالأخشاب والصخور والتراب. وهكذا ينمّون قدراتهم الحركية والإبداعية والاجتماعية في آنٍ واحد. ولذلك، فإن اللعب في الطبيعة ليس ترفًا، بل ضرورة لنمو صحي ومتوازن.

 

 اللعب وتنمية الدماغ

 

البحوث العصبية الحديثة تؤكد أن اللعب يُنشط مناطق الدماغ المسؤولة عن النمو والتكامل الحسي والإبداعي. وقد لاحظ علماء وكالة «ناسا» أن أكثر مهندسيها ابتكارًا كانوا في طفولتهم مولعين بالتجريب والعبث الحر بالأشياء. وهذا دليل على أن التجربة العملية الحرة وليس التعليم النظري المبكر هي التي تبني عقول المفكرين والمبدعين.

 

اللعب بالمكعبات مثلًا ليس نشاطًا بسيطًا، بل تجربة هندسية ورياضية بامتياز. فعندما يوازن الطفل بين الكتل ليبني برجًا، يتعلم مبادئ الفيزياء والدعم والتوازن. وتشير الأبحاث إلى أن الأطفال بين الرابعة والخامسة يقضون نحو ثلث وقت لعبهم الحر في أنشطة هندسية ومعمارية. وتعد المكعبات من الأدوات التي تُنمّي التفكير المكاني والمنطقي والرياضي ولذلك توصي الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال بتوفيرها بوصفها من «الألعاب الحقيقية» التي تُثري عقول الصغار.

 

دراسات «هاي سكوب» التربوية أظهرت أن الأطفال الذين شاركوا في برامج تعليمية قائمة على التخطيط واللعب الذاتي وليس على التلقين أصبحوا أكثر استعدادًا للحياة وأقل عرضة للمشكلات السلوكية لاحقًا.
كما أثبتت تجارب ألمانيا أن التعليم القائم على اللعب يؤدي إلى نتائج أفضل على المدى الطويل في القراءة والرياضيات والإبداع مقارنة بالتعليم الأكاديمي المبكر. اليوم ومع عودة الاهتمام بالمنهج القائم على اللعب، تُقر مؤسسات كبرى مثل الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال بأن اللعب الحر هو الأساس في التعلم والنمو المتكامل.

 

 الخاتمة

إن اللعب ليس مضيعة للوقت، بل هو الاستثمار الأهم في الطفولة. إنه اللغة التي يتحدث بها الطفل مع العالم، والطريق الذي يبني من خلاله فكره وخياله واستقلاليته. وحين نتيح للأطفال حرية اللعب، فإننا لا نمنحهم لحظات من الفرح فقط، بل نمنحهم الأساس المتين الذي يقوم عليه التعلم مدى الحياة. فالطفل الذي يلعب بحرية اليوم، هو المفكر والمبدع غدًا.
واللعب، في جوهره هو الحياة نفسها. 

Leave a comment